تخفي الضجة الكبيرة التي أثارتها العمليات التي تعرض لها دبلوماسيون إسرائيليون في الهند وجورجيا، وإحباط أخرى في تايلاند صراعاً تحت الرماد بين إسرائيل وإيران، يتجنب المواجهة العسكرية، ويلجأ الجانبان إلى حرب تعتمد على أساليب دبلوماسية، واقتصادية وإعلامية، وحرب إلكترونية، لا تقتصر على اغتيال الدبلوماسيين الإسرائيليين، وقبلها العلماء الإيرانيين لوقف البرنامج النووي الإيراني.
إيران بين سياسة حائك السجاد وخلط الأوراق
وتأتي العمليات الأخيرة في ظل تصاعد الضغوط الاقتصادية والدبلوماسية على طهران من أجل ثنيها عن تطوير برنامجها النووي وتشديد العقوبات الأوروبية والأمريكية، وجولات المبعوثين الغربيين وانضمام الإسرائيليين من أجل حث البلدان الآسيوية على الانضمام إلى حظر النفط الإيراني.
وتتزامن مع رعاية الرئيس محمود أحمدي نجاد أخيراً إدخال قضبان وقود نووي محلية الصنع، في مفاعل طهران للبحوث الطبية، وكشفه عن تشغيل 3 آلاف جهاز طرد مركزي إضافي، لتخصيب اليورانيوم في منشأة ناتانز. إضافة إلى إطلاق "جيل جديد" من اجهزة الطرد المركزي قادر على تخصيب اليورانيوم بسرعة تبلغ ثلاثة أضعاف النموذج القديم المستخدم حالياً، وتزويد مفاعل بحثي بأول دفعة من الوقود المنتج محلياً.
وعقب نشر تصريحات أحمدي نجاد من داخل أحد المفاعلات في 15 فبراير/ شباط الجاري تعهد فيها بألا تحيد بلاده عن طريقها، أعلن التلفزيون الرسمي الإيراني عرض استئناف المحادثات بعد توقفها لمدة عام في إشارات متعارضة تصعّب معرفة نوايا القيادة الحقيقية التي قالت إن لديها "مبادرات جديدة"
إسرائيل: تشديد العقوبات وحرب في الظل
بعد العمليات الأخيرة سارعت إسرائيل إلى توجيه التهمة إلى إيران بتدبير العمليات لكن التصريحات لم تكن بذات الحدة كما في المرات السابقة، وعزت صحيفة هآرتس في 16 فبراير/شباط السبب إلى أن "طهران تفقد أغلب الظن ضبط النفس الفارسي الشهير الذي نسب لها، فالحصار الدولي من جهة والعنف في شوارع الجمهورية الإسلامية من جهة أخرى يخنقانها". ونقلت الصحيفة عن مصدر إسرائيلي رفيع قوله إن "المقاطعة الاقتصادية والمساعي الدولية لمنع تسرب المعلومات نجحت في تأخير البرنامج النووي الإيراني وساهمت في ذلك بقدر غير قليل أيضا الأعمال السرية والضرر الذي لحق بأجهزة الطرد المركزي الإيرانية جراء فيروس "ستاكسنت" الذي زرع في شكل غريب في نظام تشغيلها". واعتبرت الصحافة الإسرائيلية أن "ظهور الرئيس أحمدي نجاد في المفاعل جاء للتظاهر بالصلابة، في مواجهة العقوبات الدولية على أبواب الحملة الانتخابات في بلاده على حد سواء. ولكنها ربطت بين هذه الصلابة وسلسلة العمليات الأخيرة ضد أهداف إسرائيلية في العالم، وخلصت إلى أنها "تدل على شيء واحد هو أن النظام في طهران في حالة ضغط شديد، بل ولعله على شفا فقدان السيطرة".
صعوبة توجيه ضربات أحادية إسرائيلية ضد إيران
تنصب جهود إسرائيل على إقناع الأمريكيين والأوروبيين بمخاطر البرنامج النووي الإيراني وضرورة القيام بضربة مشتركة وحاسمة على المواقع الإيرانية لمنعها من حيازة السلاح الذري بما يعنيه من "خطر وجودي" على إسرائيل.
والواضح أن السياسة الإسرائيلية تسعى إلى تحقيق أكبر مكاسب ممكنة من الإدارة الأمريكية والأوروبيين عبر التلويح بعمل عسكري هم غير قادرين على إنجازه في الشكل المطلوب، وتكرار تجربة مفاعل المفاعل العراقي الذي ضربه الطيران الإسرائيلي في 1981 أو حتى المنشآت السورية في 2007. فتبعات وردود الفعل على الضربة المحتملة سوف تكون كبيرة جداً على إسرائيل والمنطقة برمتها في ظل احتمالات ردّ إيراني عنيف.
ففي الخليج العربي تستطيع إيران ضرب المصالح النفطية أو إغلاق مضيق هرمز الشريان الحيوي الذي يمر خلاله أكثر من ثلث استهلاك العالم من النفط. ويمكن أن يطاول الرد القوات الأمريكية في العراق، وقوات التحالف في أفغانستان، إضافة إلى عدم استبعاد تنفيذ عمليات في أوروبا وغيرها وفي هذا الإطار فإن التفجيرات الأخيرة في جورجيا والهند وإن كانت عمليات "هواة" بسبب نتائجها المتواضعة، وعدم استخدام جوازات وهويات مزورة، إلا أنها تبين أن هناك نشاطاً استخباراتياً كبيراً يمكن أن يكرس للقيام بعمليات أكثر دقة وإيلاماً وفي أماكن أبعد.
كما لن تكون إسرائيل في مأمن من الصواريخ الإيرانية بعيد المدى أو الصواريخ القصيرة والمتوسطة المدى التي بحوزة حلفاء إيران في لبنان وغزة في حالة توسعت دائرة الحرب.
ومن الصعوبات المهمة التي تعترض قيام إسرائيل بضربة أحادية الانتشار الجغرافي الواسع للمواقع النووية الإيرانية وتحصينها الجيد في مواجهة الضربات الصاروخية حيث بني معظمها في مناطق جبلية تحت الأرض، كما تبرز صعوبة الحصول على تراخيص الطيران فوق البلدان التي تفصل بين إسرائيل وإيران وطول مسار الرحلة التي تتراوح حسب المسارات المتوقعة ما بين 1500 و2900 كيلومتراً، إضافة على إعادة تزويد الطائرات بالوقود لضرورة إعادة جولة ثانية من القصف.
الولايات المتحدة ودعوات ضبط النفس..
تخشى الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا من أن تؤدي ضربة إسرائيلية مفاجئة إلى تغير في المزاج الداخلي الإيراني وتحوله إلى جبهة واحدة تدعم مساعي النظام إلى امتلاك أسلحة ذرية، مقابل فوائد لا تتعدى تأخير البرنامج النووي لمدة لا تتعدى 3 سنوات، وتجهد في إقناع الأمريكيين أن العقوبات الاقتصادية بدأت يؤتي ثمارها، وأن إيران لن تبادر إلى الهجوم إلا في حال تعرضها لضربة فقد حذر مدير وكالة مخابرات الدفاع رونالد بيرجس منذ أيام من أن إيران سوف ترّد إذا تعرضت للهجوم لكن من غير المرجح أن تبدأ أو تثير صراعا وأشار إلى أنه "بإمكان إيران إغلاق مضيق هرمز مؤقتا على الأقل وربما تطلق صواريخ ضد القوات الأمريكية وعلى حلفائنا في المنطقة إذا تعرضت إلى هجوم"، كما توقع "أن تحاول إيران أيضا استخدام إرهابيين في جميع أنحاء العالم".
وفي حديث نشرته صحيفة "هآرتس" في 16 فبراير/ شباط توقّع المستشار السابق للرئيس الأمريكي باراك أوباما لشؤون الشرق الأوسط دنيس روس، تراجع إيران بسبب تشديد العقوبات الدولية عليها، وأشار إلى أن "العملة الإيرانية فقدت ستة أضعاف قيمتها خلال الأسابيع الستة الأخيرة، وتاريخياً كل الحكومات التي شهدت انخفاضاً مشابهاً في قيمة عملتها، واجهت صعوبات". وشدد على أن العقوبات فاعلة "وسيرى الإيرانيون كيف سيقاطع الأوروبيون نفطهم، وبدأ ذلك ينعكس على الصينيين الذين خفضوا نصف مشترياتهم ويحاولون الحصول على تخفيضات".
وأوضح أن دعوات الحوار تأتي بعد تعرض القيادة الإيرانية لـ "ضغط، ولذلك يقولون فجأة إنهم مستعدون لحوار مع الدول الست"، ولفت إلى أن الإيرانيين "جمدوا تخصيب اليورانيوم، عندما اعتقدوا أن الدور آت عليهم، بعد غزو العراق، لأننا نجحنا خلال ثلاثة أسابيع في هزم جيش حاربوه ثماني سنوات".
سباق إسرائيلي مع الزمن قبل فوات الأوان
يسود اعتقاد في أوساط الخبراء وصناع السياسة في إسرائيل بأن إيران سوف تدخل الحصانة النووية في فترة تتراوح بين نصف سنة وتسعة أشهر وعندها لن يستطيع العالم التحرك ضد الجمهورية الإسلامية النووية، وفي هذا الإطار فإن هناك إجماعاً على أن "الإيرانيين يصفون وضعاً أفضل وأكثر تطوراً مما هم فيه بالفعل من أجل خلق شعور بين جميع اللاعبين أن إيران بلغت نقطة اللاعودة فعلاً بهدف إعطاء انطباع بأن أي عمل ستتخذه القوى العالمية ضدها لوقف برنامجها النووي سيكون متأخرا جداً". حسب تصريحات إيهود باراك في 16 فبراير/شباط الذي دعا من طوكيو إلى تشديد العقوبات على إيران من أجل ثنيها عن برنامجها النووي، لافتاً إلى أن "العقوبات الحالية غير كافية للتأثير في قرارات القيادة الإيرانية، لذلك فإننا نعتبر من الضروري اتخاذ إجراءات أكثر فاعلية تشل قدرة إيران".
وأختتم بمقتطفات من مقالة اللواء الاحتياط في الجيش الإسرائيلي يسرائيل زيف بعد العمليات في جورجيا والهند وفيها تتضح الإستراتيجية الإسرائيلية في التعامل مع إيران على المدى المتوسط إذ يقول إن "أحداث الأيام الأخيرة تشهد على أن الإيرانيين يعيشون في حالة ضغط ويواصلون ارتكاب الأخطاء؛ فالعمليات التي رأيناها في الهند وتايلاند، والمحاولة التي منعت للمس بسيارة السفارة في جورجيا، تدل على أن العقوبات التي فرضت عليهم مؤخراً من الغرب والعمليات ضد علمائهم النوويين تعطي مؤشراتها... وعليه فان تفضيل الجهود الدبلوماسية، التي تستهدف الضغط على طهران، خصوصاً في أوساط الدول التي ما تزال تتعاون معها، إلى جانب التعاون الاستخباراتي الوثيق مع دول يمكن أن تشكل أراضيها أهدافا للعمليات المقبلة واتخاذ وسائل دفاعية قصوى ويقظة مشوبة بالحذر للإسرائيليين في الأماكن المختلفة سيشكل على ما يبدو الجهد السليم للعمل في هذا الوقت".
سامر الياس
(المقالة تعبر عن رأي كاتبها، وهيئة التحرير غير مسؤولة عن فحواها)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق