12‏/06‏/2012

نجاد والحرس الثوري وقطع الشطرنج!


<>الحرس الثوري دولة كاملة داخل الدولة وبدونه لا وجود لنظام الملالي. هذا الدرس الذي لم يتعلمه أحمدي نجاد مبكرا ويدفع اليوم ثمنه غاليا في مواجهته لخامنئي<>
عائشة سيف السويدي
تستوقفني كثيراً بعض المقولات التي تمنح مخيلتك بُعداً إضافياً للتفكير ومساحةً أرحب للخروج من النمطية، ومن ذلك ما قاله جون سيلدون أستاذ القانون خلال القرن السابع عشر: "ليس من المنطق في شيء أن تتهم شخصاً بالخيانة عندما يكون تحت إمرته جيش كامل"!، ولكن يبدو أن ذلك يستعصي على من يحمل دكتوراه في الهندسة المدنية وتخطيط النقل ثم قضى شطراً من حياته أستاذاً جامعياً في هذا المجال ثم رئيساً لبلدية مدينته، ثم بقدرة قادر وجد نفسه وهو ابن الحلاق رئيساً لدولة كاملة، ويبدو أن ذلك ما دعاه في فورة الحماس أو ربما عدم التصديق بواقع الحال لكي يرمي بسهام نقده للجميع في الداخل والخارج وليتهم بالخيانة من زوّروا الانتخابات الرئاسية الأولى ثم الثانية لصالحه.
ذلك الشخص ليس إلا محمود أحمدي نجاد!
نجاد يبدو أنه لا يقرأ التاريخ كثيراً وربما يكون في مسيس الحاجة لمعرفة خبايا السياسة وألاعيبها وكيف أن عناصرها كقطع الشطرنج والتي من المفترض أن تبقى في حالة حركة ممنهجة وشدٍ وارخاء وتوقع أن يتم التضحية بكافة القطع ما عدا القطعة الكبرى ألا وهي الشاه، وليس شاه الشطرنج هنا سوى المرشد الأعلى للثورة والذي يُعتبر في العقيدة الإثنا عشرية نائب الإمام المنتظر، ومن يسير بإمرته كتائب أشبه بفرقة الحشاشين الدموية والتي أقامها أسلافهم من الشيعة الإسماعيلية في قلعة "ألموت" بأواسط إيران وعاثت في بلاد الإسلام فساداً وقتلاً وإرهاباً، وهاهم يُشكلون كياناً قريباً منه هو الحرس الثوري (أو الباسدران) والذي يعتبر بحد ذاته دولة داخل الدولة ويحمل قُدسية لا يجاريه بها غيره من القوات النظامية أو مؤسسات الجمهورية الأخرى!
هذه القدسية والتي لا أذكرها مجازفة هي ما أكدها مؤسس هذه القوات في بدايات الثورة الإيرانية عام 1979 والذي لم يكن سوى آية الله الخميني نفسه عندما قال عن حراس الثورة: "لو لم يكن حراس الثورة ما كانت الدولة، إني أوقر الحراس وأحبهم وعيني عليهم، فلقد حافظوا على البلاد عندما لم يستطع أحد ومازالوا، إنهم مرآة تجسم معاناة هذا الشعب وعزيمته في ساحة المعركة وتاريخ الثورة". ويسير في ذات الركب التغزّلي هاشمي رفسنجاني رئيس مجمع تشخيص مصلحة النظام الإيراني بقوله في صحيفة كيهان في ديسمبر 1984: "إن جيش حراس الثورة الإسلامية الذي تشكل من أكثر الأشخاص تجربة ونضجاً، عليه مسئولية المحافظة على منجزات الثورة ودستورها، لقد كان دور الحراس مؤثراً في إحباط كل مؤامرات القوى الاستكبارية ضد الثورة، سواء في أعمال التخريب أو التضليل أو جبهات القتال، كذلك كان لهم دور كبير خارج البلاد في تصدير الثورة الإسلامية، فأثبتوا أنهم جهاز يمكن الاعتماد عليه".
وامعاناً في تأكيد مكانة هذا الحرس الثوري في بدايته كلجنة ثورية اتخذ الخميني من مركز اللجنة مقراً مؤقتاً لإقامته، ومنه بدأت تدار أجهزة ومؤسسات وكافة تنظيمات الجمهورية الجديدة في طهران، وأصبح مقر اللجنة هو مقر الحكومة والوزراء، ومركزا للقيادة العسكرية ومجمعاً للأسلحة وحينما سقطت مؤسسات دولة الشاه انتقلت دفة إدارة البلاد إلى هذه اللجان الثورية، وقد أسهم هذا الاهتمام والثقة المطلقة لكيان الحرس الثوري إلى تهميش الجيش النظامي والذي كان الخميني وقيادات الثورة ينظرون له بعين الريبة لتباطئه في مناصرة الثورة في بداياتها ما عدا سلاح الجو، وهو الأمر الذي تجلّى في تسريح واقصاء القيادات العليا منه كمرحلة أولى ثم نقل وتسريح القيادات من المستويات الدنيا، وتشير التقارير إلى أنه بحلول يوليو 1979 فر من الجيش حوالي 60% من عناصره جرّاء تلك النظرة التشكيكية في ولائه!
وعندما أعلن الخميني في نوفمبر 1980 التعبئة العامة لتجنيد 20 مليون شخص كجيش شعبي يساند الحرس الثوري والباسيج (وهم قوات التعبئة) والجيش النظامي، تم اسناد الأمر إلى قادة الباسدران والذين أطلقوه تحت شعار "لبيك يا خوميني" ثم صدر قرار سنة 1985 لإسناد مسؤولية التجنيد الإلزامي إيضاً للحرس الثوري بعد أن كانت تابعة للجيش، وهي أمور ساهمت في خلق تنافر وتنافس سلبي بين الكيانين، وطيلة سنوات الحرب مع العراق ظل الجيش والحرس الثوري يشنان حربين منفصلتين لدولة واحدة، فكان لكل منهما وزير وقيادة أركان عامة واستخبارات خاصة ومكتب خاص للعلاقات العامة، وعندما كان قادة الجيش ينتقدون تهوّر عمليات الحرس الثوري والباسيج وافتقادها للنضج التكتيكي للحروب، كان الحرس يفتخر بأنه يتسم بالجرأة والإقدام اللذين يفتقدهما الجيش النظامي!
وما أن وضعت الحرب أوزارها حتى ظهر الشّق الآخر لدور الحرس الثوري، ألا وهو تقمصه وتسنّمه لمقام الآلة الإقتصادية للجمهورية، حيث ومن خلال "مؤسسة خاتم الأنبياء" التابعة له والتي يترأسها الجنرال رستم قاسمي تمّدد نفوذ الحرس الاقتصادي بصورة لافتة عبر استثمارات ضخمة في آلاف الشركات في مختلف القطاعات، حيث تقوم مؤسسة الحرس الثوري بتشغيل مطار طهران الدولي، وببناء الطرق السريعة، وتركيب أنظمة الاتصالات، كما أنها تدير برنامج تصنيع الأسلحة الإيرانية بالكامل، وقد صدر مؤخراً خبر بثته وسائل الإعلام الإيرانية بتلقي مؤسسة خاتم الأنبياء لمبلغ يقارب الستة مليار دولار عن مشاريع قامت بتنفيذها خلال العامين المنصرمين، وهو رقم يرى المراقبون أنه أقل بكثير مما يتحصل عليه الذراع الاقتصادي للحرس الثوري وذلك لأن أغلب أعمال المؤسسة تحاط بسرية كبيرة ولا يتم الإفصاح عن حساباتها السنوية إلا في حدود ضيقة. وقد ضمت بعض المشاريع المنفذة من خلال المؤسسة إنشاء قطار أنفاق في مدينة مشهد، ومشروعات بنية تحتية في صناعة الغاز والنفط، وفي سبتمبر الماضي اشترت شركة "اعتماد مبين" التي تربطها وسائل الإعلام الإيرانية بالحرس الثوري، 51% من أسهم شركة الاتصالات الوطنية بعد خصخصتها بعد أن تم استبعاد منافسها الرئيسي لأسباب قيل عنها "أمنية"!
وجاء في تقرير مؤسسة "راند" الشهيرة للأبحاث عام 2009 أنّ مؤسسة خاتم الأنبياء حصلت على عقود زادت عن 750 عقداً في مشروعات انشائية وأخرى للطاقة والبنية التحتية، وذكرت أن هناك تقارير تفيد بسيطرة الحرس الثوري على السوق السوداء وسلعها المهربة من خلال نقاط دخول تخضع لسيطرة قوات الحرس الثوري فقط. والنقاط التي يذكرها التقرير ليست شيئاً بسيطاً بل هي قرابة 80 ميناء ومرسى منها قرابة الأربعين مرسى في إقليم هرمزغان جنوبي البلاد لا يستطيع الاقتراب منها حتى رئيس الجمهورية نفسه، وهو الأمر الذي دعا أحمدي نجاد لكي يُسمّيهم "الاخوة المهربون" حيث تستغل هذه المنافذ لتهريب السلع والعملات والتهرب الضريبي على نحوٍ واسع، وقد أثارت تصریحات نجاد ردود فعل عنيفة من الحرس الثوري واعتبر اللواء محمد علي جعفري قائد الحرس الثوري الإيراني بأن تصریحات نجاد "موضوع انحرافي"!
وتشير التقارير إلى أن الحرس يمتلك سيولة أكثر مما يمتلكها المصرف المركزي نفسه، وتقدر أرباح مؤسسته السنوية بخمسة مليارات دولار والتي يعمل تحت إدارتها أكثر من 500 شركة في الخليج ودول الشرق الأوسط وجنوب شرق آسيا وأوروبا، وقد كشف الحساب الختامي لوزارة المالية بأنّ مؤسسة خاتم الأنبياء والمؤسسات المتفرعة منها تسيطر على 57% من واردات البلاد و30% من صادراتها غير النفطية، فيما تشير تقارير أخرى إلى أن حجم التجارة غير المشروعة (غسيل أموال، مخدرات، دعارة) تصل إلى ثمانية مليارات من الدولارات، وقد حصلت المؤسسة في عامٍ واحد على 3 عقود ضخمة من الحكومة في مجال النفط والغاز تقدر قيمتها بسبعة مليارات دولار!
هذا الإخطبوط الاقتصادي والذي تتنفس من خلاله جمهورية الملالي على رغم العقوبات الاقتصادية الكثيرة عليها، لا زال يمارس دوراً ثالثاً إمعاناً في إثبات دوره كلاعب شبه أوحد على الساحة الإيرانية بكل أصعدتها، ألا وهو النفوذ السياسي، حيث لعب الحرس الثوري دوراً رئيسياً في فوز أحمدي نجاد في منافسته الأولى أمام هاشمي رفسنجاني والذي –لخوفه منه - قام علي خامنئي المرشد الأعلى للثورة بالإيعاز للحرس الثوري للتلاعب بالانتخابات لصالح خصمه المتواضع سياسياً محمود أحمدي نجاد، وفي ذلك يقول السياسي الإيراني المعروف نوري زاده: "خامنئي كان يريد أن يشغل أحمدي نجاد منصب رئاسة البلاد، لأنه أراد سكرتيراً له وليس رئيسا للجمهورية أو حتى شريكاً"، ثم كان التزوير من جديد في قلب الأمور لصالح "السكرتير" نجاد – والذي انقلب لاحقاً على المرشد – ضد الإصلاحي مير حسن موسوي والإصلاحي الآخر مهدي كروبي وقد كان المشهد التزويري مؤلماً لدرجة أن الكاتب السياسي كاظم حبيب قال: "تؤكد الكثير من المصادر في وزارة الداخلية الإيرانية عن عمليات تزوير كبيرة جداً، وإلا لما انقلب الرقم 35% من الأصوات إلى 65% من الأصوات لصالح احمدي نجاد"!
هذا الدور يبدو أكثر وضوحاً في تعليق قائد الحرس الثوري محمد علي جعفري فيما يتعلق باحتمال مشاركة الرئيس الإصلاحي السابق محمد خاتمي في الانتخابات الرئاسية المقبلة العام 2013 عندما قال: "يمكن لمحمد خاتمي المشاركة في الانتخابات المقبلة بشرط أن يعلن براءته من تيار الفتنة، وأن عودته للساحة السياسية رهن بمواقفه". ثم استدرك قائلاً: "إن خاتمي لم ينجح في امتحان تيار الفتنة "!، وهذا التدخل الغريب لقائد الحرس كان سبباً في غضب الإصلاحيين وتنديدهم بتجاوزات الحرس الثوري واستمرار تدخلاته السافرة في الحياة البرلمانية، والتي اكتملت بتهييج أقلامهم في صحيفة "كيهان" التابعة للمرشد الأعلى لتتهجّم على هاشمي رفسنجاني وتنعته بالـ"العميل والخائن لولاية الفقيه" رغم أن رافسنجاني هو من أقنع مجلس خبراء القادة خلال فترة رئاسته له بتعيين خامنئي مرشداً أعلى رغم أنه لم يصبح بعد مرجعاً دينياً وهو الشرط المطلوب لولاية الفقيه!
أمّا تدخلات الحرس الثوري إقليمياً فحدث ولا حرج، فقد كان جرس الإنذار الأقرب وليس الأول هو اكتشاف الخلية التابعة له في البحرين وانكشاف دوره الرئيسي في تلك الاضطرابات ومحاولة قلب نظام الحكم والتي أوضحت تقارير جهاز الأمن القطري وتصريحات النيابة البحرينية أنّ من بين أهداف المخطط كان تفجير السفارة السعودية في البحرين، إلى جانب جسر الملك فهد الذي يربط السعودية بالبحرين، ومقر وزارة الداخلية، واغتيال عدد من الأشخاص في البحرين!
كما تبدو الصورة أكثر وضوحاً في تمرّد الحوثيين في اليمن والذين بعد أن كانوا يدينوا بمعتقد الشيعة الزيدية إذا بهم ينقلبون لتبنّي المذهب الإثنا عشري، مذهب قمّ وطهران، وقد نقلت صحيفة نيورك تايمز عن مسؤولين أميركيين قولهم: "إن مهربين إيرانيين يدعمهم فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني يستخدمون قوارب صغيرة لنقل أسلحة (إي كي- 47) وقاذفات صواريخ وغيرها لاستبدال أسلحة قديمة يستخدمها الحوثيون". بينما أكدت صحيفة الأهالي اليمنية الأسبوعية امس بتاريخ 2 يونيو2012عن وجود معسكرات لتدريب المتمردين الحوثيين في اريتريا، حيث تتواجد وحدات من الحرس الثوري الإيراني باريتريا يعتقد أنهم يقومون بتدريب المتمردين وتزويدهم بالسلاح عبر ميناء "عصب" الاريتري وتسهيل حركتهم إلى ميناء ميدي اليمني والذي يستميت الحوثيون للسيطرة عليه لتسهيل عملية دخول الأسلحة والإمدادات الإيرانية، وذلك من باب "الحرب بالبديل" لاستنزاف وانهاك القوات السعودية تمهيداً لتحريك الخلايا النائمة في الشرقية لاحقاً!
وعلى صعيد الأزمة السورية فإن دور إيران وحرسها الثوري ومشاركاتهم الميدانية وشحنات الأسلحة المهربة أوضح من الشمس في رابعة النهار، وقد نقلت وكالة الأنباء السورية (سانا) عن نشاطات للقوات الايرانية في سورية ودعمها للجيش العلوي ونظام بشار الأسد حيث نقلت عن اسماعيل غنائي نائب قائد لواء القدس التابع للحرس الثوري الايراني قوله "أنه لولا تواجد ايران في سوريا لحدثت مجازر على قاعدة واسعة" وبالطبع فإن ما يفعله جلاوزته في الشعب (السنّي) الأعزل من حرب ابادة وترويع لا ينطبق عليها تعريف غنائي فيما يقصده بالمجازر!
الحرس الثوري دولة كاملة داخل الدولة وبدونه لا وجود لنظام الملالي، لذلك تم منحه كل هذه الصلاحيات الواسعة في السياسة والاقتصاد والعسكرية، وأصبح صوته مدوياً على مستويات النخب السياسية، وإن المتّأمل لحدوث توجه إصلاحي في ايران هو شخصٌ لا ينظر للواقع إلا من خلال نافذة الأماني والأحلام، فالمطلوب في الرئيس الايراني أن يكون مجرد لُعبة (أو أراجوز) بين أصابع المرشد الأعلى يحركه كيف شاء ثم يرميه عندما يستفيق أو يحاول التمرّد على هذه الرئاسة الشكلية، وهو الأمر الذي حاول نجاد أخيراً عمله فألّب عليه المرشد وحرسه الثوري وأصبحت أيامه معدودة بعد أنّ تمادى –فجأة- في اتهاماته ولم يتهم من يحرّك الحرس فقط بل الحرس بأكمله عندما وصفهم بالإخوة المهربين ليخرج قائد الحرس الثوري محمد علي جعفري قائلاً:"إن السلطة القضائية أوكلت للحرس الثوري مهمة اعتقال حلقة المقربين من الرئيس أحمدي نجاد" ومن وصفهم بـ"التيار المنحرف".
فقطع الشطرنج تتساقط كلها وليس الشاه يا نجاد!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق