06‏/08‏/2011

إعلان الحكم الذاتي في سيناء!



من الخطأ التعامل مع ما يحدث في العريش وشبه جزيرة سيناء انطلاقا من أحداث 29 /7 ومحاولة اقتحام قسم ثاني العريش في حدث لا يرتبط فقط بالثلاثين سنة من حكم الرئيس السابق مبارك، بل يمتد إلي عمق تأسيس الدولة الحديثة منذ عهد محمد علي، بحيث يمكن القول إن سيناء جرح مزمن لم يلتئم في الجسد المصري منذ أكثر من مائتي عام!وفي حكم مبارك تلوث هذا الجرح وأصابته مؤخرا «الغرغرينا».. وإذا لم تتحرك باقي الدولة المصرية لإدارة أزمة سيناء علي جميع الأصعدة.. سيحدث ما لا تحمد عقباه.. وبدون دواعي الحذر السياسي سوف تنفصل سيناء عن مصر.
وفي أحسن الأحوال ربما تتحول لمنطقة حكم ذاتي.. ومخطط تفكيك الدولة المصرية جاهز ومعلن ومعد، ولكن العامل الخارجي ليس هو الأساسي فالجسد السليم القوي المناعة يقاوم أي أمراض خارجية!

الأحداث الأخيرة هي نتاج سياسات مدمرة توجت بعصر مبارك وحبيب العادلي، ولكن فهم الصورة جيدا وسط التصريحات المتضاربة والتي تثبت أن المنوط بهم الملف الآن لا يدركون حجم الخطر.. فمنذ خمس سنوات وحتي الآن شهدت سيناء (64) حادث تفجير أو سطو مسلح أو خطف رجال أمن أو قطع طرق، وكلها انتهت إلي محاكمة (255) غيابيا، من ثلاثة آلاف قضية، وبالطبع من هذه القضايا التفجيرات الخمسة لخط أنابيب الغاز، وهكذا فالأرقام الرسمية المعلنة تؤكد أن كل شهر من السنوات الخمس الأخيرة شهد 5 حوادث عنف مسلح مضاد للدولة، و300 قضية أمن دولة و45 حكما غيابيا إضافة لاتباع سياسة الإنكار والتلفيق وعدم إعلان الحقائق من مبارك والعادلي وأعوانهم حتي وصلنا إلي ما حدث أمام قسم ثاني العريش.

إن تلك الحقائق والأرقام تكشف عن أن بدو سيناء لم يتمردوا منذ تأسيس محمد علي للعريش 1831 وحتي 1952 سوي أربع عشرة مرة، أي بمعدل مرة كل ثماني سنوات في حين سجلت الأرقام الرسمية 5 حوادث تمرد شهريا في السنوات الخمس الأخيرة من حكم مبارك، وفي الفترة من 1955 وحتي انتصار أكتوبر 1973 تحمل أهالي سيناء ببطولة وبسالة مع القوات المسلحة والمخابرات المصرية عبء المقاومة حتي النصر.

تصريحات متضاربة

ما حدث أمام قسم ثاني العريش بكل دلالته: أسلحة ثقيلة توازي كتيبة من جيش نظامي تقاتل رجال الشرطة والقوات المسلحة 9 ساعات متواصلة في مسرح عمليات مكشوف ينم عن مقاتلين مدربين علي أعلي مستوي ولا يمكن أن يكونوا فقط مجموعة بلطجية أو حتي مجموعة من تنظيم القاعدة، بل إن المشهد يبدو لأي عسكري مبتدئ أن هناك مخابرات دول أو تنظيمات كبري مجاورة لمسرح العمليات ساهمت بالتخطيط والمساندة وإلا بالله عليكم كيف لمجموعة بلطجية في مسرح عمليات مكشوف أن يفعلوا كل ذلك؟! ربما ذلك ما ذهب بالصحف الإسرائيلية خاصة «هاآرتس» إلي اتهام مخابرات إقليمية بمساندة القاعدة والتشهير بمصر تحت زعم أنها فقدت السيطرة علي شبه جزيرة سيناء.

اللواء عبد الوهاب جمال - محافظ شمال سيناء - اعترف ضمناً في صحف 1 أغسطس بوجود تنظيم القاعدة في سيناء حينما صرح: «الأمر ليس خطرا والعناصر التي تشكل أذرع لتنظيم القاعدة مرصودة ومعروفة وهم عناصر قليلة العدد وتحت أعين أجهزة الأمن»، وأضاف الأمن مستقر في العريش: «لكن العناصر التي تأتي من خارج العريش هي التي تثير القلاقل».

وهكذا فإن حقيقة وجود تنظيم القاعدة مدعوما بمخابرات دول مجاورة لم يعد سرا، وما بين تهوين سيادة المحافظ وتهويل من ادعي أنه أحد قيادات القاعدة ويدعي الشيخ عواد، حيث صرح في اتصال هاتفي مع «المصري اليوم» 8/3 : «أن التنظيم قوي وكبير ومنتشر في ربوع سيناء وعدد أعضائه نحو 10 آلاف»، واعترف بوجود عناصر أجنبية في الهجوم وأكد علي تلقي عناصر التنظيم تدريبا عاليا داخل مصر وفي قطاع غزة مشيرا إلي أن مطالبهم هي إقامة إمارة إسلامية في سيناء.

بيئة قبلية محايدة

الخطر الأكبر أن ما حدث ويحدث يجري في بيئة سيناوية قبلية (محايدة علي الأقل) لأن معظم هؤلاء المتمردين من أبناء القبائل السيناوية، ومن المعروف أن رموز الدولة من المحافظ الحالي وحتي رئيس الوزراء الدكتور عصام شرف أجروا العديد من جلسات التفاوض التي تبلغ - وفق ما هو معلن - 5 جلسات من بينها لقاء د. شرف مع زعماء القبائل ثم تفاوض المحافظ الحالي مع المسلحين عبر الهاتف وكان القاسم المشترك الأعظم من المطالب هو:

الإفراج عن المعتقلين وإسقاط القضايا المتبقية.

إنهاء الوجود الشرطي من سيناء وتعامل زعماء القبائل مباشرة مع الأجهزة السيادية والقوات المسلحة لما لهم من علاقات مشتركة طيبة.

إعطاء حقوق المواطنة الكاملة لبدو سيناء بما في ذلك تمليك الأراضي.

احترام العادات والتقاليد البدوية بما في ذلك حق التقاضي.

إعطاء حصة في الكليات العسكرية لأبناء بدو سيناء.

مراعاة أبناء سيناء في الوظائف في شمال وجنوب سيناء التي يسيطر علي أغلبها غير أبناء سيناء.. وغيرها من المطالب الخاصة بالتنمية.

وحينما لم تتم الاستجابة سوي للإفراج عن 45 سجينا بعد زيارة د. شرف لسيناء فوجئ الرأي العام في الصحف ببيان 28 مايو 2011: «إعلان دستوري عرفي بين 10 قبائل لمواجهة مشكلات سيناء والإعلان ينص علي «حماية منشآت الدولة وعدم احتجاز الأفراد واحترام القضاء العرفي السيناوي.. إلخ».

القبلية والسلفية الجهادية

ولمزيد من إلقاء الضوء فإن المسألة القبلية في مصر من الأمور المسكوت عنها، تخبو حينما تكون أساسات التماسك القومي سليمة، وتهتز مع اهتزاز تلك الأساسات، حيث يبلغ عدد القبائل العربية في مصر 105 قبائل ينتشرون في كل محافظات مصر ثلثهم علي الأقل في سيناء كما يقدرهم الشيخ سليمان أبو حسين - شيخ مشايخ قبيلة «السماعنة» بشمال سيناء - وأكد أبوحسين أن القبائل البدوية العربية تقارب 17 مليون مصري.

تتركز معظم هذه القبائل التي تحتفظ بتقاليدها ما بين قنا والبحر الأحمر وسيناء ومطروح والساحل الشمالي، ومن يعود بالذاكرة إلي أحداث قنا اعتراضا علي تعيين المحافظ القبطي في نهاية إبريل الماضي وقطع خط السكة الحديد من قبل بعض القبائل القنائية وسط هتافاتهم «إسلامية إسلامية» ورفع الأعلام السعودية، وأن بعضا من هؤلاء بايعوا من بينهم أحد أئمة المساجد أميرا علي إمارة قنا واستخفت النخبة المركزية بذلك.

حتي تزامن ما حدث في ميدان التحرير من الحركة السلفية في 29 يوليو بشكل سلمي مع ما حدث في العريش بشكل مسلح قبل أن ينصرف متظاهرو التحرير، نفس الأعلام ونفس الشعارات، ولم يتوقف أحد بالتحليل والربط بين هذه الظاهرة من قنا إلي سيناء مرورا بالتحرير مع اختلاف الأساليب، ويطرح بعمق ودون تنابذ واتهامات سياسية عن العلاقة بين بعض أطراف الحركة السلفية وبعض أبناء القبائل العربية كبيئة خصبة للتنظيم والتجنيد، وممارساتهم أشد وأقصي أنواع الاحتجاج الممزوجة بالشعور بالاغتراب تجاه الوطن المصري إلي حد رفع أعلام للعربية السعودية، وممارسة إرهاصات انفصالية مثل الحنين لإمارة إسلامية؟!

من الملاحظ أن تلك التجمعات السلفية القبلية تجتذب في صفوفها أبناء فقراء القبائل الضعيفة الذين يشعرون بالغبن والتهميش والبحث عن المكانة عن طريق الانتماء إلي جماعات دينية سياسية.. تعوضهم مكانتهم الاجتماعية المفقودة في السلم الطبقي القبلي، أو عدم وجود مكانة لهم وظيفية في الحكومة المركزية ترفع من شأنهم، وهكذا تنشأ العلاقة بين الجماعات السلفية خاصة الجهادية منها والمهمشين المستبعدين من السلم القبلي الاجتماعي علي أرضية اجتماعية وثقافية ويجسد رفع علم العربية السعودية مدلولا ثقافيا أكثر منه سياسيا فهو علم الهوية السلفية البدائية وحلم الماضي السحيق في مواجهة علم الوطن الذي لا يظللهم من وجهة نظرهم، إنها عودة إلي البداوة الأولي في مواجهة العولمة والحداثة التي لا يستطيعون اللحاق بها، وهذه قمة التصحر الفكري والثقافي (يلاحظ علي سبيل المثال تمركز وجود النفوذ السلفي في الساحل الشمالي أو قبلي السكة بالإسكندرية، حيث يتركز العرب وفقراء البدو النازحون من الشرقية والبحيرة والصعيد).
دهب الرجل سلاحه «مثل بدوي»
لذلك لم يكن مستغربا أن يعلن عشية مظاهرة التحرير السلفية وغزوة العريش الجهادية أن يعلن في 28 يوليو عن تأسيس مجلس شيوخ للعشائر والقبائل بالغردقة بعد أن اتفقت علي ذلك قبائل البحر الأحمر، كما صرح لوسائل الإعلام إبراهيم الشاذلي المتحدث باسم المجلس، وقال: «إن المجلس يهدف إلي الحفاظ علي «الهوية العربية الإسلامية» التي تتميز بها قبائل البحر الأحمر'' - لاحظ مسألة الهوية الإسلامية من ميدان التحرير لسيناء للبحر الأحمر - ويضيف المتحدث: «سيشمل المجلس قضاء عرفيا، بالإضافة إلي الحفاظ علي الثروات الطبيعية، ويضم المجلس أكثر من 15 قبيلة وعشيرة».

هذا هو ثاني إعلان دستوري عرفي قبلي بعد ثورة 25 يناير، من سيناء إلي البحر الأحمر مرورا بقنا وأسوان، وما يحمله ذلك من دلالات لأعمدة الاندماج القومي لبنيان الدولة المصرية في ظل غياب مشروع اجتماعي واقتصادي وتنموي، الأمر الذي لم يحدث منذ تأسيس الدولة الحديثة علي يد محمد علي إلا في ظل ثورة يوليو، ولكي ندرك ونفهم لابد أن نعود إلي عصر محمد علي لكي نكتشف أن المركز دائما لا يتعامل مع الأطراف إلا عبر سياسة الإذعان والإخضاع بحيث لم يكن أمام الأطراف سوي التمرد ومحاولات الانفصال المسلح الفاشلة وإليكم الأمثلة من ذات الأماكن.
(الصعيد وسيناء)
التمرد الكبير بقيادة شيخ العرب همام في مطلع القرن 19 وإعلان الجمهورية في سوهاج والتي امتدت من المنيا وحتي قنا، ثم التمرد الذي قاده الشيخ الطيب الهواري 1867 في عهد الخديو إسماعيل.

ومن الصعيد إلي سيناء نجد الصراع الدموي بين المركز والأطراف:

1810 أنشأ محمد علي محافظة العريش والتي كانت تمثل أول شكل إداري منظم لسيناء في العصر الحديث، ووضع تحت يد محافظ العريش قوي عسكرية لحماية حدود مصر الشرقية، كما أنشئت نقطة جمركية ونقطة للحجر الصحي، وفي عام 1831 أرسل محمد علي ابنه إبراهيم علي رأس حملة إلي الشام فقام بالعديد من الإصلاحات في سيناء لخدمة قواته فرمم بئر العبد وبئر قطبة وبئر الشيخ زويد ووضع حراسة علي آبار المياه علي طول طريق العريش، ولكن في طريق العودة ثار عليه عربان السواركة والترابين فخربوا محطات البريد في الشيخ زويد وهدموا بئر المزار، مما اضطر إبراهيم إلي قتالهم ودحر قوات العربان.

وفي عام 1834 جهز محمد علي قوة من عربان أولاد علي المقرحي شيخ القبيلة، والشيخ هنداوي شيخ قبيلة الجميعات لوضع حد لعصيان عربان سيناء وغزة، فألحقت بهم هزيمة ساحقة ونهبت بيوتهم وماشيتهم، وقد منح محمد علي كل فرد من أفراد القبائل التي شاركت في الحملة 500 قرش مكافأة، وهكذا نكتشف أن سياسة الرشاوي وتأليب القبائل علي بعضها البعض سياسة مركزية قديمة قدم الدولة المركزية.

وفي كل الأحوال لم يكن سكان سيناء طرفا في تلك الصراعات، ومن ثم فقد كانوا دائما معادين لمحمد علي وخلفائه الذين لم يهتموا بسيناء من أجل سكانها، ولكن لأغراض استراتيجية وعسكرية بحتة، لذلك يسجل الباحثون 14 تمردا مسلحا لبدو سيناء علي حكم أسرة محمد علي بدءا من 1831 وحتي 1952 أي بمعدل تمرد كل 8 سنوات تقريباً.

ومن ثم من يراجع سياسة المركز مع الأطراف سيجد أن قنا وأسوان والبحر الأحمر من حكم محمد علي وحتي 1952 منفي، ويحتل كبار الموظفين الصدارة من القاهرة مما دعا كاتبا ومحللا كبيرا مثل مأمون أفندي (وهو بالمناسبة صعيدي مثلنا) أن يسمي ذلك الاستعمار الداخلي.

ورغم أن سكان سيناء وفي مقدمتهم المواطنون المصريون البدو دفعوا دماءهم بسخاء منذ 1955 و1956 و1967 و1973 فلم ينالوا ما وعدوا به وأقلها حق المواطنة وتمليك الأراضي، ومن ثم كانت عوامل الحرمان النسبي وراء خيبة الأمل وضياع الحلم وفقدان المكانة والتنكيل بهم خاصة في عصر مبارك عبر زبانية العادلي من أمن الدولة الذين استخدموا القبضة الحديدية وباع من لا يملك الأراضي لمن لا يستحق فحدث هذا الانفجار وتلك الاختراقات!

إننا أمام مشهد في غاية الخطورة: الحزام القبلي متحالف مع الحركة السلفية الجهادية وغير الجهادية مدعوما بأحلام الهوية المرتبطة بأرض الآباء والأجداد في الجزيرة العربية والبحث عن هوية من الماضي السحيق وأعلام الاغتراب السعودي وشعارات «إسلامية .. إسلامية» والحكومة المركزية بقيادة الدكتور شرف مشغولة بفرض سلطتها علي ميدان التحرير والأطراف تبتعد رويدا رويدا، وهكذا فالتاريخ من محمد علي وحتي مبارك وصولا لعصام شرف يعيد نفسه، والتاريخ لا يعيد نفسه إلا مرتين، مرة في شكل مأساة ومرة في شكل مهزلة .. ألا هل بلغت اللهم فاشهد.

سليمان شفيق

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق