تكللت الجهود القيادية المميزة لمؤسسة قوى الأمن الداخلي اللبناني، على مشارف العام الجديد، بإصدار "مدونة قواعد سلوك عناصر قوى الأمن الداخلي"، مبرهنة عن سيرها قدماً لتطوير أدائِها، بعد تبوّء الوزير مروان شربل سدة وزارة الداخلية، وهو الذي تزود في مراحل خدمته العسكرية في قوى الأمن الداخلي بالخبرات الأمنية مساهماً في تقدمها، لا سيما من خلال قيادة وتدريب وتحديث القوى السيارة وفرقة النخبة منها.
تهدفُ هذه المدوّنة إلى "تحديد واجبات عنصر قوى الأمن والمعايير القانونية والأخلاقية التي عليه الالتزام بها أثناء أداء واجباته، كما تنظِّم علاقاته مع الأفراد والمجموعات والسلطات كافّة وتسعى إلى ضمان احترام حقوق الإنسان وحماية الحريات العامة وفقاً للدستور اللبناني والمعايير الدولية".
وكانت المديرية العامة قد استجابت للمعايير الدولية الحديثة في الأداء الشرطي وأنشأت قسم حقوق الإنسان في المفتشية العامة لقوى الأمن الداخلي، والذي تتمحور مهامُه حول التعريف بهذه الحقوق وحمايتِها من الانتهاك وتعميق الوعي لدى العناصر أثناء ممارسة السلطة، إنطلاقاً من أهمية تأسيس ثقافة وطنية لحماية وصون حقوق الإنسان، لاسيما للأشخاص المحرومين من حريتهم في السجون وأماكن الاحتجاز.
واعتبر وزير الداخلية والبلديات مروان شربل في تقديمه للمدونة "أنَّ هذه الخطوة السبّاقة التي قامت بها المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي، والمتمثّلة بتعميم مدونة قواعد سلوكٍ منهجيةٍ على عناصرها، تُعتبر إنجازاً رائداً ومثالاً يُحتذى في لبنان والعالم، كيف لا وهي تُرسي قواعد مؤّسساتية بمعايير أخلاقية ومهنية، تُحترَم فيها التشريعات الوطنية وتُراعي المواثيق والمعايير الدوليةَ، وتتلاقى بواسطتها قوى الأمن مع المجتمع المدني بكلِّ فئاته وأطيافه."
بدوره، يتطلّع اللواء أشرف ريفي المدير العام لقوى الأمن الداخلي لأن تكون المدوّنة "نواةً صلبةً لعلاقةٍ وطيدة جديدةٍ ومتجددة بين المواطن وقوى الأمن الداخلي، أساسها الثقة والاحترام ومعيارها التزام القانون والأخلاق وهدفها تكريس سيادة القانون ودولة المؤسسات"، وذلك "عبر تكريس معايير الكفاءة والتطوير المهني لدى العناصر كافةً وإرشادهم إلى الواجبات والضوابط التي ترعى عملهم، وأيضاً من خلال تفعيل مبدأ الثواب والعقاب والرقابة على كافة المستويات."
ومن موقعي كضابط سابق في قوى الأمن الداخلي، وإسهامي، في حينه، في إنشاء ورئاسة قسم حقوق الإنسان حتى مزايلتي الخدمة (بداية عام 2009)، ومن خلال عملي كباحث استراتيجي في مؤسسة الشرق الأدنى والخليج للتحليل العسكري –إينجما- أثمّن عالياً إنجاز هذه المدونة، وأتوجه من خلال هذه المقاربة إلى كل من بيده السلطة على مستويات الإمرة والقيادة كافة بالدعوة إلى حماية هذا الإنجاز وحسن تطبيقه.
وفي نظرة موجزة على محتويات المدونة نقرأ، من خلال نقاطها الرئيسة، الموجبات التالية:
أولاً - الواجب المهني ويشتمل على احترام الكرامة الإنسانية وصون حقوق الإنسان، بالإضافة إلى التقيد بتنفيذ المهام المنوطة بقوى الأمن بالقوانين والأنظمة، مع التأكيد على واجب المحافظة على سرية المعلومات التي يطلع عليها العنصر الأمني بحكم وظيفته، وتلبية نداءات الإغاثة وتأمين الإسعافات الأولية لجرحى الحوادث الطارئة والكوارث.
ثانياً - واجبات الرئيس من خلال تنمية معلومات مرؤوسيه المهني، ومعاملتهم باحترام وتقدير، وتوجهيهم ومراقبة اعمالهم للوصول إلى أداء أفضل. ويكون القدوة والمثال لهم في التقيّد ببنود المدونة.
ثالثاً - النزاهة والاستقامة وتحتوي على توجيه العنصر لتوخي المصلحة العامة فقط، والعمل باستقامة وصدق ونزاهة بعيدا عن الفساد وإساءة استخدام السلطة لمصلحة أو توخي المنفعة الشخصية.
رابعاً - التجرد في التعامل بعدل وإنصاف. بحيث يحظَّر ممارسة التمييز العنصري أو العرقي أو الطائفي أو المناطقي، أو على أساس الأصل القومي أو الجنس أو السن أو الوضع الاجتماع، أو أي أساس آخر.
خامساً - السلوك ويوجب هذا البند الامتناع عن القيام بأي عمل من أعمال التعذيب أو المعاملة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة أو التحريض عليه أو التغاضي عنه أثناء إجراء التحقيقات، أو أثناء تنفيذ المهام الموكلة إليه. ويوجب كذلك مراعاة أوضاع الأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة. والتحلي بالأخلاق والتهذيب والبعد عن الغطرسة أثناء ممارسة الوظيفة، وعدم الإساءة إلى سمعته وسمعة السلك.
سادساً - الإنضباط وقيوده في أنه يحظَّر على العنصر تعاطي السياسة، والانتساب إلى الأحزاب والجمعيات والنقابات، حضور الاجتماعات الحزبية والسياسية والنقابية والانتخابي، وممارسة أيّ مهنة حرة أو عمل مأجور خارج عمل قوى الأمن الداخلي، والإضراب عن الخدمة أو التحريض عليه، وتنظيم أو توقيع العرائض الجماعية في أيّ موضوع كان، بالإضافة إلى وجوب إطاعة الرئيس في كل ما يتعلق بالخدمة دون تذمر.
سابعاً - استخدام القوة واستعمال السلاح: يمتنع عن استخدام القوة واستعمال السلاح إلا في حالة الضرورة بشكل يتناسب مع الخطر وبعد استنفاد كافة الوسائل غير العنفية المتاحة وضمن الحدود اللازمة لأداء الواجب.
ثامناً - صون حقوق المشتبه به والمحتجزين: ومضمونها وجوب إبلاغ عناصر قوى الأمن للمشتبه به أو المشكو منه فور احتجازه بحقوقه المنصوص عنها في المادة 47 من قانون أصول المحاكمات الجزائية، وهي: الاتصال بأحد أفراد عائلته أو بصاحب العمل أو بمحامٍ يختارُه أو بأحد معارفه، ومقابلة محامٍ يعيّنه بتصريح يُدوَّنُ على المحضر دون الحاجة إلى وكالة منظمة وفقاً للأصول، والاستعانة بمترجم محلّف، وتقديم طلب مباشر أو بواسطة وكيله أو أحد أفراد عائلته إلى النائب العام بعرضه على طبيب لمعاينته."
وأوصى هذا البند باعتماد الطرق القانونية والتقنيات العلمية أثناء التحقيق دون اللجوءإلى أيّة أساليب غير إنسانية. وألزم بألا يباشر التحقيق مع الحدث إلا بحضور مندوب اجتماعي، على أن يعلم ذوي الحدث فور توقيفه. وأوجب فصل الأحداث عند احتجازهم عن سائر الموقوفين ومعاملتهم بطريقة إنسانية وعدم تكبيلهم إلا في حالات استثنائية.
تاسعاً - احترام مدونة السلوك وفي هذا البند الأخير فرض التزام عنصر قوى الأمن بالتقيد بهذه المدونة والتبلِّيغ عن أيّ انتهاك لها، على أن تُتّخذ بحق المخالفين التدابير المسلكية والقانونية المناسبة.
وما احتاج إلى توضيح وإسناد قانوني من المدونة أجيب عليه في المذكرة التفسيرية الملحقة بها بنداً بنداً؛ بحيث نلاحظ التركيز في هذا التفسير على وجوب تطبيق مبدأ قرينة البراءة الذي يقضي بأنَّ كلّ مُتَّهم بريء حتى تثبتُ إدانته من قبل المحكمة (المادة11 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان(.
كما ركز على اجتناب كلِّ عنف لا تقتضيه الضرورة، والامتناع عن القيام بأيّ عمل من أعمال التعذيب أو المعاملة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة أو التحريض عليه أو التغاضي عنه، خصوصا بهدف تخويف شخص أو إرغامه لانتزاع اعتراف بجريمة أو الإدلاء بمعلومات بشأنها (وفقا للاتفاقيات الدولية والقوانين اللبنانية المعتمدة؛ واعتماد التقنيات العلمية في التحقيقات عن طريق الاستعانة بمكاتبَ قسم المباحث العلمية (تحليل الحمض النووي- مقارنة البصمات- مضاهاة الخطوط...(
ونرى في صدور هذه المدونة خطوة متقدمة على طريق تحسين الأداء الأمني تبدأ بتوضيح واجبات عنصر قوى الأمن تجاه المواطن، لا سيما للأشخاص المحرومين من حريتهم في السجون وأماكن الاحتجاز، وتذكير هذا العنصر بأن انخراطه في السلك العسكري هو انتماء مجرد من الغايات الحزبية والمنافع الشخصية، متوخياً التقيد بأوامر الرؤساء في ممارسته للسلطة في كل ما يتعلق بالخدمة.
وقد جاءت المدونة في إطار إخضاع معظم ضباط وعناصر قوى الأمن الداخلي لدورات مكثفة في الشرطة المجتمعية من ضمن برنامج تدريبي متقدم ومستمر، تنفذه قيادة المعهد بتعاون ودعم كامل من سفارة الولايات المتحدة الأميركية منذ أكثر من عامين.
وإنصافاً للواقع، فإننا نشهد للقيادة الحالية لقوى الأمن الداخلي في تعاونها إلى حدود متقدمة مع منظمات المجتمع المدني والجمعيات الأهلية والدينية في رعاية السجناء والموقوفين والمحتجزين، ومشاركة ضباطها في المؤتمرات وورش العمل والندوات التي تدعى إليها في مواضيع وقضايا المجتمع كافة، والتعاون الشفاف مع وسائل الإعلام بحيث تطوَّر الإعلام الأمني وأصبح مصدراً ومرجعاً موثوقاً في كافة الأحداث الأمنية لمعظم وسائل الإعلام.
وكان سبق صدور هذه المدونة عملاً دؤوباً تكلل بوضع خطة استراتيجية رباعية الأبعاد لتعزيز أداء قوى الأمن الداخلي؛ فقامت ورش عمل داخل المؤسسة، ضمت كل ورشة 20 ضابطا من أكفأ قيادات الأمن الداخلي من اختصاصات متعددة، وتم تحديد المشاكل ونقاط الضعف وتفصيلها، ووُضعت على أساسها خطط المعالجة وفقا للأولوية من أجل إعادة بناء الثقة بين المواطن وعناصر قوى الأمن.
وفي حديث خاص لموقع الأمن والدفاع العربي SDA، في20 تموز/ يوليو 2011، أوضح رئيس شعبة التخطيط والتنظيم في المؤسسة، العميد بيار نصار، أنه بنتيجة المراجعة والتقييم، إتضح أن عمل قوى الأمن الداخلي كان قائما على رد الفعل على الأحداث، في ظل غياب استراتيجية عمل واضحة تتضمن تنظيم إدارة مسرح الجريمة ومعالجته، ووسط محدودية الإمكانات اللوجستية. فكان من الضروري معالجة تلك الثغرات وتفعيل مكافحة الإرهاب، لاسيما مع نمو عمل الخلايا الإرهابية وتسارع الأحداث.
وكمرحلة أولى سيتم العمل على صعيد 4 أولويات، يتم تطبيقها وفقا للإمكانيات: تعزيز حقوق الإنسان في قوى الأمن الداخلي، العمل على مكافحة الجريمة، تعزيز كفاءة عناصر قوى الأمن الداخلي، والعمل على تحسين معالجة المرور.
وحتى لا يلقى صدور هذه المدونة مصير ما عودتنا عليه معظم الأنظمة العربية من الإقدام على التوقيع على الاتفاقيات الدولية والبروتوكولات المتممة لها لمجرد الإنتماء أو اضطرارياً، أو لتلميع صورتها أمام العالم الخارجي؛ لا بد من شد أواصر الثقة والانسجام ما بين أركان الوحدات والمديرية العامة، والبدء بورشة عمل مكثفة في سبيل الشروع بإنجاز المراسيم التطبيقية المتممة للقانون المعمول به حالياً، وتفعيل عمل قسم حقوق الإنسان الذي ما زال "مستحدثاً" في المفتشية العامة دون آلية تطبيق وتعليمات تمكنه من مراقبة أداء عناصر قوى الأمن، وتدريبهم على ثقافة حقوق الإنسان وتمكينهم من الاعتماد على هذا القسم تحديداً للشكوى من تجاوز احترام وصون الحقوق الإنسانية التي حوتها المدونة.
ونبرر نظرتنا الإيجابية لمنجزات الدولة اللبنانية على طريق صون الحريات والاقتراب من المعايير الدولية للحقوق الإنسانية، وندعو إلى ترسيخ الخطوات التطويرية في الأداء الأمني، مسترشدين برأي رئيس القسم العربي في مفوضية حقوق الإنسان، السيد فرج فنيش، في مقابلة حديثة بتاريخ 10/12/2011 أن هناك نوع من التقدم في مجال حقوق الإنسان في المنطقة، أي الاعتبار أن حقوق الإنسان يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار في السياسات، ولكن المشوار لا يزال طويلا من أجل أن يصبح المواطن العربي والمواطنة العربية متمتعين بحقوق الإنسان، وأن تكون السلطة هي الحامي لتلك الحقوق وليس القامع لها.
ونبرر نظرتنا الإيجابية لمنجزات الدولة اللبنانية على طريق صون الحريات والاقتراب من المعايير الدولية للحقوق الإنسانية، وندعو إلى ترسيخ الخطوات التطويرية في الأداء الأمني، مسترشدين برأي رئيس القسم العربي في مفوضية حقوق الإنسان، السيد فرج فنيش، في مقابلة حديثة بتاريخ 10/12/2011 أن هناك نوع من التقدم في مجال حقوق الإنسان في المنطقة، أي الاعتبار أن حقوق الإنسان يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار في السياسات، ولكن المشوار لا يزال طويلا من أجل أن يصبح المواطن العربي والمواطنة العربية متمتعين بحقوق الإنسان، وأن تكون السلطة هي الحامي لتلك الحقوق وليس القامع لها.
ونلفت إلى ما يعتقده فنيش "بأن الطريق مازال طويلا في مجال حقوق الإنسان، وليس هناك أي بلد يمكن أن نقول أنه يحترم حقوق الإنسان بشكل مقبول. فالتعذيب مازال موجودا ومنتشرا بشكل واسع. وكذلك الاختفاءات القسرية، والمحاكمات غير العادلة، والانتهاكات التي يتعرض لها نشطاء حقوق الإنسان، لاسيما الصحفيين، حرية الرأي والتعبير، حرية التظاهر، حرية المعتقد، حقوق المرأة ، والتوزيع العادل للخيرات؛ لأن هذه الثروات لا يمكن أن يكون مفهومها أنها ملك لعائلة أو ملكا لفرد.
ويضيف: "لابد من التذكير، توضيحاً، بأن حقوق الإنسان هي واجب وليس إصلاحا أو سياسة مطلوب أن نقوم بجهد فيها، لأن مصدر السلطة هي الشعوب وبالتالي ضمان حقوق البشر وسلامة البشر هي مسألة واجبة على الحكام وليست "مكرمة" من الحكومات؛ من منطلق أنها انضمت إلى عدد من الاتفاقيات الدولية ووقّعت عليها. لذلك ليس من صلاحياتنا منح شهادات حسن سيرة وسلوك في هذا المجال، لكن من واجبنا الوقوف لها بالمرصاد إذا لم تطبق؛ وهذا من منطلق حقوق الإنسان وليس من منطلق سياسي أو اقتصادي".
العميد (م) ناجي ملاعب
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق