28‏/08‏/2012

معهد العربية للدراسات: حماس وإيران.. صعود وهبوط العلاقات!

 
معهد العربية للدراسات والتدريب
شهدت علاقات حركة حماس بإيران خلال السنوات الماضية تطوراً نوعياً، غير مسبوق في حجم تفاعلاتها، وسرعة توثيقها، في ضوء المصالح المشتركة لكلا الجانبين في تنميتها ورفع مستوياتها، وقد شمل ذلك الأصعدة السياسية والإعلامية والعسكرية والمالية، لكن العام الأخير الذي شهد ثورات الربيع العربي، بسقوط أنظمة عربية بعينها، وتساقط أنظمة أخرى، كان له أكبر الأثر على تزعزع هذه العلاقة، وتراجع وتيرتها، لاسيما الثورة السورية، والدفاع المستميت الذي تبديه إيران تجاه النظام السوري، فيما خاب أملها في موقف حماس من الأحداث، حيث لم تبد موقفاً واحداً، من قريب أو بعيد، يشفي غليل حكام طهران تجاه الأحداث السورية، أسوة بما فعله حزب الله.

تلقي هذه الدراسة التالية لمعهد العربية للدراسات والتدريب، والتي كتبها الأكاديمي الفلسطيني عدنان أبو عامر، الضوء على أبرز مستويات العلاقة التي ربطت حماس بإيران، مع تقديم رؤية استشرافية لمآلات هذه العلاقة، صعوداً أو هبوطاً أو جموداً، في ضوء المتغيرات الإقليمية بالدرجة الأولى.
حدثان مهمان عاشتها العلاقات الإيرانية الفلسطينية في الأيام الأخيرة، سيتركان أثراً أساسياً على تراجعها بالضرورة:

1- غياب قيادة حماس السياسية في قطاع غزة عن احتفالات يوم القدس العالمي الذي يقام سنوياً في الجمعة الأخيرة من شهر رمضان، فيما حرصت على حضور والمشاركة فيه بكثافة ورمزية طوال السنوات الماضية.

2- اللغط والإرباك الذي أحدثته دعوة إيران لكل من السلطة الفلسطينية وحكومة حماس بالمشاركة في قمة دول عدم الانحياز التي ستقام في 30 أغسطس الجاري في طهران، وما تسببت به من إثارة لموضوع الانقسام الفلسطيني من جديد.

لكن لا تمكن مناقشة الآثار المترتبة على هذين الحدثين، وتراجع الدور الإيراني على الساحة الفلسطينية، دون الرجوع إلى خلفية هذا الدور أصلاً، مع الأهمية الفائقة التي توليها إيران للساحة الفلسطينية، من خلال القوى المسلحة، وتحديداً حركتي حماس والجهاد الإسلامي، لما لهذه البقعة الجغرافية من أثر إيجابي في نفوس الفلسطينيين والعرب، وما قد تحصده إيران من ثمار إيجابية على صورتها في الرأي العام الفلسطيني والعربي.

التربة الخصبة

منذ بدء اتضاح النفوذ الإيراني في الأراضي الفلسطينية، تداخلت في تشكيله متغيرات عديدة يمكن تحديدها فيما يلي:

1- التنافس على قيادة الحركة الوطنية الفلسطينية، في ضوء تراجع قوى عربية داعمة.

2- رفع وتيرة تدخلها الخارجي في القضايا الإقليمية، واعتبارها المصدر الأساسي للاستقرار والتوتر" في المنطقة على حد سواء.

3- التغطية على الاختلافات المذهبية بين الشيعة والسنة، في ضوء الحملة التي ترعاها جهات عربية وإسلامية تحمل كلا المذهبين، وتتنافس على الساحة السياسية في الأراضي الفلسطينية.

4- تقود إيران معركة "برنامجها النووي" مع الدبلوماسية الغربية ومجلس الأمن، مستخدمة كل الأوراق لإدارتها، ودون أن تتخلى عن قرارها باستمرار هذا البرنامج، واستكماله.
ومع ذلك، فإن قراءة فاحصة في واقع النفوذ الإيراني في القضية الفلسطينية، من خلال القوى المسلحة، تشير إلى أن حسابات المصالح الوطنية والقومية تداخلت مع تأثيرات التدخل الخارجي، بحيث لم يقف الاختلاف المذهبي، السني والشيعي، عائقاً أساسياً أمامها.

ويشير إلقاء نظرة علمية دقيقة على نفوذها، إلى عدم طموحها لتوسيع مساحة أراضيها، بل تقليص الخلافات الموجودة حالياً ضمن العالم العربي؛ واستغلاله لتوسيع نفوذها، بتمسكها بـ"ورقة" القضية الفلسطينية، ودعم المقاومة المسلحة ضد إسرائيل، ليمنحها "شيكاً على بياض"، و"بوليصة تأمين" أمام الرأي العام الفلسطيني.

وفي ضوء أن طهران قوة إقليمية، وتطمح لتكريس دورها ضمن النظام الراهن، فقد جعل ذلك من سياستها الخارجية ناشطة وطامحة وقائمة على عدة ركائز، كدعم الجماعات الفلسطينية المسلحة، لأسباب رمزية، و"ممتلكات" احتياطية، وصولاً منها لكسب ود الرأي العام العربي في سبيل تطويق عداوة الأنظمة العربية لها، وهي ركائز تتأثر كل منها بعدة عوامل تعزز قوتها، وترسم حدوداً لها في الوقت نفسه.

وطالما سعت إيران لاستغلال الرأي العام الفلسطيني، ونجحت في بعض الأوقات، فضلاً عن دعمها للقوى المسلحة، لأنه قوة موجهة مهمة في مشروع بسط وتمدد سيطرتها الإقليمية، ولذلك فهي توظف الإعلام المحلي والعالمي، كقناة العالم الفضائية الناطقة بالعربية، لإظهار نفسها بصورة رائدة التحديات الشعبية، وبطلة القضية الفلسطينية وحليفة الفلسطينيين، وضحية المعايير الغربية المزدوجة الخاصة بالبرنامج النووي.

إلا أن دراسة المآخذ الإعلامية والإحصاءات الخارجية تظهر أن الدعم الفلسطيني الشعبي لإيران لم يحسم حتى الآن، إلى ما قبل اندلاع الثورة السورية، لأن هناك الكثير من الحالات التي قفز فيها بسرعة قياسية من التأييد إلى النقد، استناداً لأحداث خارجة عن سيطرتها، ومرتبطة بأخطائها الإستراتيجية، لاسيما الخوف المنتشر في أوساط الفلسطينيين والعرب من مطامع هيمنتها الإقليمية، وتزايد التوتر الطائفي في العراق، واستهداف الفلسطينيين هناك بزعم دعمهم للرئيس السابق صدام حسين، والنمو السياسي الشيعي في المنطقة.

أوجه الدعم

ترى إيران أن دعمها للحركات المسلحة الفلسطينية، لاسيما حماس، ليس مفاجئاً، أو مرتبطاً بتحقيق أجندة إقليمية آنية، بل له جذور تاريخية، تعود لما قبل اندلاع الثورة الإيرانية عام 1979، التي شهدت تزايد الدعم السياسي والإعلامي، بحيث أن مرشدها "الخميني" بادر لتحويل السفارة الإسرائيلية زمن "الشاه"، إلى سفارة للثورة الفلسطينية، وامتلك علاقات وثيقة مع الزعيم الراحل ياسر عرفات أوائل سنوات الثورة.

وبعد ظهور الحركات المسلحة، لاسيما ذات الطابع الإسلامي العقائدي، برزت أوجه الدعم الإيراني لها، بحيث يمكن تفسيره على أنها لا تنوي التخلي عما تعتبره "موقعها المتقدم في الشرق الأوسط"، ولذلك أخذ دعمها للفلسطينيين، وتحديداً حركة حماس الأشكال التالية:

الدعم المالي

أكدت حماس في أكثر من موضع، على أن التشكيل الابتدائي المالي "الرئيسي" لها، كان وما زال عربياً شعبياً بامتياز، ولم يكن لإيران أي مساهمات فيه، بل غذي بشكل كامل عبر مساهمات القطاع الخاص في دول الخليج والمحيط العربي، مما مكن الحركة وهياكلها من إشباع حالة "الاستقلالية التامة" في آلية اتخاذ القرار، وبناء بوصلة حرة أبعدتها عن التبعية لصاحب "حقيبة التمويل".

ومع ذلك، تشير الوقائع الميدانية، بالاستناد لتقارير أمنية إسرائيلية وغربية، أن طهران كانت تمول بشكل أساسي حركة حماس، لاسيما بعد تشكيل حكومتها عام 2006 بميزانيات سنوية ثابتة، إضافة لدفعات لمرة واحدة في حالات خاصة، بملايين الدولارات، مقابل خدمة أجندتها السياسية ومخططاتها الإستراتيجية.

وفي ظل الحصار الدولي المفروض على حماس، واتهامها بالإرهاب، ومحاصرة وجودها، ومصادر إمدادها، وحرمانها من الانفتاح السياسي والدعم اللوجستي، وإغلاق كثير من العواصم في وجه تحركها، واتباع عواصم أخرى سياسة "التجويع من أجل التركيع" حسب تعبيراتها، دفعها ذلك لطرق أبواب أخرى كإيران، إبقاءً لجذوتها، ودعماً لوجودها.
فوجدت متنفساً لها في مواقف بعض الدول، كإيران، فتعاملت معها –كما تقول- على أساس المصلحة الفلسطينية بالحفاظ على تميز التجربة الديمقراطية، واحترام نتائجها وإفرازاتها، ورحبت بمساعدتها، وفك الحصار المالي على حكومتها المنتخبة، بل إن حماس رأت في الدعم المالي الإيراني "واجب ديني وأخلاقي تجاه القضية والمقدسات، وليس منّة منها، طالما أنه يأتي في إطار الظرف الضيق، والزوايا غير المنفرجة الذي يستدعي نسج علاقات، وتحالفات تساعد على إضعاف خاصرة العدو، وغرس شوكة جديدة في ظهره".

ومع ذلك، فقد ظهرت بوادر ضائقة مالية تمر على حكومة حماس، بسبب توقف الدعم المالي لإيران، لخلافهما حول الثورة السورية الدائرة، ففي حين أرادت الأولى دعماً واضحاً من الثانية للنظام في دمشق، إلا أن الحركة وجدت في ذلك مخالفة لموقفها الدائم المتمثل بعدم التدخل في الشئون الداخلية للدول، ورغبة منها في عدم خسارة المشاعر الشعبيية والإسلامية المؤيدة لها.

ومع ذلك، فقد "عوقبت" على موقفها هذا، و"جمدت" طهران دعمها المالي للحركة، ما يشير إلى أن هذا المال الإيراني هدف من تقديمه "تشكيل أحلاف"، وهو ما لم تقبله حماس، رغم علمها الوثيق بأنه "لا يوجد مال بدون ثمن"، بحيث يسعى من يدفع المال لأن يفعل، وألا يكون ماله المقدم بدون أثمان، لكن المسألة ليست متعلقة بذاته بقدر ما هي متعلقة بالطرف الآخر.

الدعم العسكري والتسليحي

رغم أن إيران اعتادت على التعتيم، أو إنكار الطابع العسكري- التنفيذي للمعونات التي تقدمها للمنظمات الفلسطينية، وعرض المساعدات على أنها سياسية وإعلامية وإنسانية، لكنها تقوم بتدريب المئات من المسلحين الفلسطينيين على القتال في إطار "الحرس الثوري"، وتزويدهم بأعداد كبيرة من القذائف الصاروخية، التي تطلق على المستوطنات الإسرائيلية.

ويعمل "فيلق القدس" على توفير الصواريخ المتطورة المصنعة، كبنادق القنص والأسلحة الأوتوماتيكية والراجمات، وتزويدها بقدرات تركيب المواد الناسفة بصورة ارتجالية المطورة ضد الآليات المدرعة، وبناء واستعمال تقنيات العبوات الناسفة الذكية، وقد عثر على العشرات منها بأيدي مقاتلي حماس في غزة، وهي عبارة عن عبوة جانبية من نوع "شواظ 4"، ذات قدرة على الاختراق لما يزيد عن 200 ملم من الفولاذ، كثمرة للتطوير الإيراني، حيث زودتها بخبرات تقنية لتصنيع العبوات الناسفة الفتاكة.

وتظهر إيران رضاها عن قدرات الفصائل الفلسطينية في مواجهتها مع إسرائيل، وتزعم أنها حولتها من "منظمات مزعجة إلى خطر استراتيجي"، بعد مساعدتها ببناء ترسانة صاروخية تضم آلاف الصواريخ، القريبة والمتوسطة المدى، ومنحتها قدرات هائلة، تمكنها من القدرة على التسبب في تدهور إقليمي، وهي مكانة تجسدت جيداً في الحرب الأخيرة على غزة، غير المسبوقة في حجمها وخطورتها.

وقد أشار مركز المعلومات والاستخبارات الإسرائيلية المقرب من جهاز الأمن الداخلي "الشاباك"، إلى مميزات المساعدة التي تقدمها إيران لحماس، والمتمثلة في نواة نوعية لآلاف النشطاء، تلقوا دورات تأهيلية متطورة في مختلف التدريبات العسكرية، ونقل المهارات التكنولوجية، المستخدمة في إنتاج الوسائل القتالية، كالعبوات الناسفة والصواريخ.
وفي حين تمر شبكة تهريب السلاح الإيرانية الضخمة المتبعة منذ سنين باتجاه غزة، عبر الصومال والسودان والبحر الأحمر، ومسارات بحرية في النيل إلى القبائل البدوية في سيناء، التي تستعمل نظم رشوة تحبط قدرة جهاز رقابة الشرطة على وقف التهريب من مدينة رفح، فإن الطريق الموصلة من غزة إلى إيران، تتمثل بمغادرة نشطاء حماس وباقي الفصائل للقطاع، في طريقهم إلى مصر، ومن هناك يسافرون عن طريق الجو إلى سوريا، ثم يواصلون سيرهم نحو طهران، ويسمح لهم عند دخولهم وخروجهم من هناك، عدم التوقيع على جوازات السفر لأسباب أمنية، وإخفاء حقيقة خروجهم لتلقي التدريبات هناك هل ثمة مصادر.

فيما أوضحت المراسلة البريطانية "ماري كولفين" خلال تحقيق ميداني لها في غزة، ونشرته في صحيفة "صانداي تايمز" بتاريخ 9/3/2008، أن نشطاء حماس يمارسون تدريباتهم وتمريناتهم في إيران خلال مدة زمنية تتراوح بين شهر ونصف إلى 6 أشهر، وتتم في قاعدة عسكرية مغلقة، وفي ظروف قاسية، ثم يسمح لهم بالذهاب للعطلة مرة واحدة أسبوعياً، ضمن مرافقة أفراد الأمن الإيرانيين، وتم إرسال العشرات منهم هناك لتلقي الدورات، حيث يمكث المتفوقون في كل دورة فيها فترة إضافية من الزمن، يتلقون خلالها دورات متطورة، ثم يعودون إلى غزة ليعملوا "مرشدين" هل ثمة مصادر لهذه المعلومات الميدانية والواقعية! .

وقد حصل الباحث على معلومات متواترة لم يتم التأكد منها، تشير إلى أن التدريبات العسكرية لمقاتلي حماس في طهران لم تعد تفيدهم كثيراً، وأن الحرس الثوري الإيراني لا يقدم لهم كل ما يرغبون به من تمرينات متقدمة وتأهيل متطور، يوازي ما يقدم لنظرائهم من حزب الله، ما يشير بصورة لا تقبل الشك أن النظرة الإيرانية لحماس بعيدة كلياً عن اعتبارها ذراعاً عسكرياً متقدماً لها في المنطقة.

ورغم أن إيران لا تتمتع بسيطرة تامة على حلفائها في غزة، وعلى رأسها حماس، بعكس الوضع لدى حزب الله، لكنها حرصت على تزويدها بالدعم العسكري، لإعطائها العمق الاستراتيجي، بتزويدها السلاح لـ"أطراف" متعددة داخل "معسكر العدو"، وتأمينها لشرعية في الشارع العربي، لتبدو "أكثر عروبة من العرب أنفسهم"، فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، كما تنتظر عبر دعمها للحركات المسلحة في غزة الحصول على مقابل، في حالة حصول هجوم إسرائيلي عليها، وتتوقع أن تسخر نفسها لخدمتها، بمشاغلة "العدو"، وفتح أكثر من جبهة عليه في آن واحد، مما يخفف الضغط العسكري على "الدولة الأم".

الدعم السياسي والمعنوي

درج الخطاب السياسي الإيراني على توجيه رسائل الدعم والإسناد للقضية الفلسطينية، وإدانة ورفض كل أشكال القمع والحصار الإسرائيلي المفروض على الفلسطينيين في غزة، دون أن يزيد ذلك في حدته عن مستوى الخطابات الحماسية، والشعارات التعبوية، لاعتبارات سياسية بحتة.

وقام رئيس الحكومة في غزة إسماعيل هنية بزيارة إيران بين يومي 7-11/12/2006، والتقى مع كبار مسئوليها، كالمرشد "علي خامنئي" والرئيس "أحمدي نجاد"، اعتبرت بمثابة رسالة واضحة إلى اعتماد حماس على ما يعرف في الغرب وإسرائيل بـ"محور الشر"، واستغلت زيارته للتأكيد بصورة واضحة وجازمة على المبادئ الأيديولوجية والخطوط الأساسية، مصرحاً، دون الحاجة للمواربة اللفظية، أن حماس لا تنوي التراجع عن مبادئها، وفي مقدمتها رفض الاعتراف بإسرائيل، وتبني طريق العمل المسلح وسيلة للقضاء عليها، والرفض التام لطلبات اللجنة الرباعية، ما لاقى ارتياحاً لدى حكام طهران.
ثم جاءت زيارة خالد مشعل رئيس المكتب السياسي لحماس إلى إيران، ليتم التركيز عليها في وسائل الإعلام، ونشرت الصحف الكبرى صور مصافحته لـ"نجاد"، لتصويرها على أنها تحالف ناشئ بينهما.

لكن العودة إلى أيام الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة بين يومي 27/12/2008-18/1/2009، تذكر بما أكده خبير عسكري إسرائيلي كبير بأنها شكلت لطهران "كارثة إستراتيجية"، ليس بسبب القتل بين الفلسطينيين، أو الأزمة الإنسانية، ولكن لأنها أدركت حينها أن استثمار سنين في غزة أصبح ركاماً، بفعل قنابل سلاح الجو الإسرائيلي المدمرة لما تبقى من مستودعات السلاح والبنى التحتية هناك، ما يعني أنها هددت بنقض أحد المواقع المهمة التي بنتها في المنطقة العربية، بل إن مشروعها المتقدم داخل "المجتمع السني" يحترق.
ورأى قطاع عريض من الساسة الإيرانيين في الحرب جزءً من مقاومة إسرائيل، مما قد يفسر فحوى الرسائل التي انتقلت خلال الحرب من طهران إلى غزة قاطعة لا لبس فيها: "لا تتنازلوا، استمروا في الصمود، سنوقفكم مرة أخرى على أرجلكم، وقد أعدنا لحزب الله قوته السابقة، بل ضاعفناها بعد وقت قصير من حرب لبنان، وستحصلون في غزة على العناية نفسها، بتعبئة مخازن السلاح من جديد".

ووجدت إيران في الحرب مناسبة لاكتساب أرضية جديدة على حساب خصومها من الدول العربية، بتوجيه انتقادات واتهامات لاذعة لها بسبب مواقفها، والضغط على قيادات حماس في الخارج، حيث زار "علي لاريجاني" رئيس مجلس الشورى و"سعيد جليلي" الأمين العام للمجلس الأعلى للأمن القومي، العاصمة السورية، والتقيا قيادات حماس خلال الأسبوع الأول من يناير كانون ثاني 2009، لرفض مبادرة وقف إطلاق النار، والعودة للتهدئة، انتظاراً لإنضاج الظروف التي تتوافق مع مصالح إيران في المنطقة، واختبار ما ستقدم عليه الإدارة الأمريكية من مبادرات تجاهها.

ومع ذلك، أثار الدعم الإيراني لحماس خلال حرب غزة، ومدح قياداتها ومسئوليها لطهران على دعمهم لها، تساؤلات عديدة تزايدت مع تنامي الهواجس الأمنية للأطراف المعادية لإيران، لاسيما حين أثنى مشعل عليها لدعمها الحركة، قائلاً: إن للحكومة والشعب الإيراني كبير الدور في "انتصار" الحركة في قطاع غزة، وهو كلام يطرب مسامع طهران لأنه يمنحها "شرعية" عربية إقليمية تتراجع أمامها مئات الملايين من الدولارات المدفوعة، رغم أن هذا الدعم أثار كلاماً عالي المستوى مفاده: هل لدى إيران "الشيعية" الرغبة بتحسين علاقاتها مع الجماعات الإسلامية "السنية"، تماشياً مع سياستها لتدعيم "قوى الممانعة" في المنطقة، وفي إطار حملتها لتقويض الدور الإقليمي لبعض الدول الصاعدة.

الدعم الإعلامي والدعائي

اجتهدت وسائل إعلام حماس قبل البرود الأخير، في الابتعاد عما يغضب طهران، حتى لو تعلق الأمر بخلافات إيرانية عربية، وإبراز الجوانب "المضيئة" لسياستها في المنطقة، لمحاولة تقريبها من الرأي العام العربي والفلسطيني، فإن إيران من جهتها رحبت بانتصار حماس في انتخابات 2006، وتشكيل الحكومة برئاستها، وزادت من وتيرة لقاءات التنسيق والاطلاع مع ممثليها في المستويات المختلفة.

ووجه د.أحمد يوسف، المستشار السياسي السابق لحكومة غزة، دعوة للرئيس الإيراني "نجاد" لزيارتها، ورغم صعوبة وصوله عن طريق البحر المتوسط لسيطرة إسرائيل على الساحل، فقد جعلها ذلك "فرقعة إعلامية"، والزعم بأن حماس تلعب "لعبة التحدي" مع الإقليم العربي والمجتمع الدولي الناظر بعين الريبة والشك لأبعاد وآفاق "تحالف" غزة وطهران، وقوبلت الدعوة بانتقادات واسعة في وسائل الإعلام المصرية ضدهما، في تعبير هو الأوضح عن خشية القاهرة من تحويل القطاع إلى كيان إسلامي متأثر بطهران.

كما لوحظ تواجد إيراني كبير نسبياً في ملتقي القدس الدولي بمدينة اسطنبول في 2007، بمبادرة من مؤسسة القدس الدولية المقربة من حماس، بتوفر الملصقات والبوسترات، وتكرر الحضور في "المؤتمر الوطني الفلسطيني"، الذي دعت إليه حماس، وشهد إعطاءها حجماً كبيراً!

بل إن خالد مشعل رئيس مكتبها السياسي، وفي قاعة حفلة زفاف ابنته في دمشق، مازح السفير الإيراني الضيف بعبارة "شيخ المقاومين"، وقد وافق مركز تطوير السينما الوثائقية والتجريبية في إيران على إنتاج فيلم "الشيخ ياسين" كأول فيلم مصري إيراني فلسطيني مشترك‏، على أن يتم إنتاجه باللغتين العربية والفارسية.

حقيقة التشيع في غزة

رغم أن موقف حماس تجاه إيران ينطلق - كما تقول- من رؤية سياسية بحتة، بغرض فك الحصار عنها، ودعم الشعب الفلسطيني، وتقوية جبهته الداخلية، فقد أثيرت أسئلة عديدة حول حرص الأخيرة على هذه العلاقة، وهي تعلم أن الأولى لا ترحب بمواقفها العقائدية، وتعارض نشاطها في نشر المذهب الشيعي، مع العلم أنها لم تكتف من نفوذها في غزة بالمواقف السياسية، بل لتحقيق جملة من الأهداف والغايات، ومنها نشر مذهبها بشكل مكثف، عبر مقالات خطيرة في صحف مقربة من الجهاد الإسلامي تتعرض لبعض الصحابة، وبث إذاعة صوت القدس أفكاراً تشجع على التشيع، وحديث الجرحى المرسلين للعلاج في إيران، عن ضغوط يتعرضون لها لاعتناق المذهب، وتأسيس الجمعيات التي تقوم بـ"التبشير الشيعي".

لكن الإنصاف يتطلب الإشارة إلى رفض حماس عرضاً إيرانياً بتمويل إنشاء مستشفى في غزة، لأنها طلبت أن يكون باسم "مستشفى الخميني"، كما رفض هنية متابعة الشيعة في صلاتهم خلال زيارته طهران.

الاختلاف بين حماس وإيران

لعل حالة البرود الأخيرة التي أحاطت بعلاقة حماس وإيران، تشير إلى أن البدايات التأسيسية لها لم تكن جذرية، بعكس العلاقة مع حزب الله أو الجهاد الإسلامي، مما يستدعي تناولاً موضوعياً يخاطب العقل بلغة تحليلية ضمن حسبة موضوعية، في ضوء وجود اختلافات مفصلية بينهما، بما لا يجعلها ضمن صيغة "التابع والمتبوع"، لاسيما وقد أثبتت تطورات الأحداث أن تحالف حماس الإستراتيجي مع إيران، وأنها ورقة بيدها تأتمر بأوامر مرشد ثورتها، هي من باب الوهم والتضليل لغايات سياسية، لأنه إن كان الأمر كذلك، فما الذي يدعو لوجود الاختلافات العديدة بينهما، ومن أبرزها:

1- التباينات في علاقات حماس الإقليمية عما يربطها بإيران على النحو التالي:
تربطها علاقات وثيقة بمختلف الدول العربية، بصورة معاكسة تقريباً لعموم السياسة الإيرانية، وعلاقتها مع السعودية تتصف بالإيجاب، في حين هناك توتر غير خفي بين الرياض وطهران، ارتباط وزيارات للحركة مع القاهرة، رغم اتسام العلاقات الإيرانية المصرية بالجمود، والتراشق الإعلامي أحياناً قبيل سقوط النظام السابق، علاقات إيجابية بين حماس ودول قطر والبحرين والكويت واليمن، في حين تعيش هذه الدول حالة من التشكك والحذر الشديد مع إيران، إذا كانت حماس ورقة هشة بيد طهران، فلماذا كانت أول حركة سياسية تدين بشدة إعدام الرئيس العراقي السابق صدام حسين، وتعتبره اغتيالاً سياسياً بامتياز، رغم الموقف الإيراني المعروف منه، واعتباره الخصم اللدود لها، مما يدلّل بصورة موضوعية على وجود تباينات جوهرية تجعل من سياسة كل منهما كياناً منفصلاً عن الآخر.

2-يتبنى إعلام حماس سياسة مغايرة تماماً عن سياسات وتوصيفات وتحليلات الإعلام الإيراني فيما يخص الشأنان العراقي والأفغاني، وعمليات المقاومة فيهما، بصورة تعزز الاختلاف الكبير بينهما بهذا الصدد، فإذا كانت حماس ألعوبة بيد نظام "الملالي"، فلماذا يمجد إعلامها الرسمي الناطق باسمها المقاومة العراقية، وتحتفي بأخبارها وإنجازاتها ضد الاحتلال الأمريكي في العراق، فيما تنظر إيران إليها على أنها "إرهاب" من صنع تنظيم القاعدة؟

3- أدانت حماس بصورة رسمية عمليات التهجير والقتل والاعتقال للفلسطينيين في العراق، وأشارت في غير موضع إلى انزعاجها الشديد من قيام ما وصفته بـ"جهات معلومة" بذلك، وهو ما فُهم على أنه إدانة غير مباشرة لأذرع إيرانية هناك.

4- تلبية حماس لدعوة السعودية بسرعة لتوقيع اتفاق مكة مع فتح عام 2008، وهي المناقضة لإيران، وتوقع المراقبين أن تعمل على إفشال الاتفاق، كهدية تقدمها لـ"طهران ودمشق".

5- حماس تعتبر فرعاً أصيلاً من جماعة الإخوان المسلمين "السنية"، الموجودة تاريخياً قبل قيام ثورة الخميني عام 1979 بأكثر من نصف قرن تقريباً، وبالتالي يغدو الحديث عن نشأتها في المحضن الإيراني ادعاءً غير منصف بناءً على وقائع التاريخ والجغرافيا.
كما شكلت دول الكويت والإمارات والأردن محاضن الولادة والنشأة والتربية الدعوية لقيادات المكتب السياسي الحاليين، ولم يثبت أنهم قاموا قبيل إعلان الانطلاقة بنسج أي من أشكال العلاقة مع إيران، أو القيام بزيارات مكوكية أو بروتوكولية إليها، أو سفاراتها المفتوحة في الدول العربية.

6- تمتلك إيران أذرعاً ضاربة، وروافع تنظيمية وعسكرية داخل فلسطين كالجهاد الإسلامي، وخارجها على الكتف الشمالية لإسرائيل كحزب الله، قادرة على تنفيذ رؤاها في الوقت والزمان والتكتيك المطلوب، فضلاً عن وجود حليف مساند كسوريا له نوافذ حدودية مطلة على إسرائيل، وبالتالي لا حاجة ماسة "حثيثة" لها لمربع حماس كعنصر ضغط وحيد.

الخاتمة

يمكن الخروج بخلاصة أخيرة تتمثل بأن تراجع الحلف الاستراتيجي بين حماس وإيران، بفعل التطورات الإقليمية الأخيرة، كتقارب حماس الإقليمي مع الدول العربية، واندلاع الثورة السورية، إنما يؤكد تصميم حماس التقليدي، وعزمها الأكيد على إعلان عدم خضوعها لسيطرة إيران، أو تقع في براثنها، حتى لو كانت حليفة لها، وتأكيدها على التزامهم ببرامجها الوطنية القومية، وعدم توسيعها لدائرة جدول أعمالها، أو رسم أهداف جديدة، لاسيما وأن المتبادر إلى الذهن وجود مناخ من فقدان الثقة النسبي بين زعماء إيران "الشيعة" وحماس "السنية".

ويشير ذلك إلى أن مستقبل التحالف بين الطرفين في طريقه لأن يصبح علاقة عادية، كعلاقة حماس بسواها من الدول "الصديقة" وليس "الحليفة"، أو ربما تذهب الأمور إلى أبعد من ذلك، وهو أمر مرتبط بتطورين اثنين:

1- مآلات الثورة السورية، وفضح المزيد من الدور الإيراني في قمعها،
2- التقارب الحمساوي العربي، وتحديداً مع دول الخليج، التي تربط أي "تقارب" مع الحركة بـ"تباعدها" مع إيران.

وكل ذلك يفسر علاقة حماس بإيران، على أنها حركة تتعاطى السياسة، وبين يديها مجال واسع للمناورة تحت سقفها، فهناك مصالح يمكن أن تتقاطع مع هذا الطرف أو ذاك، وتستفيد من المعطيات المتوفرة، وتغتنم أي فرصة لاختراق حصار يفرضه أعداؤها عليها، وفي ذات الوقت تعرف أن للأطراف الأخرى مصالح، يجب أن تراعى ضمن مجال المناورة الذي تحدد سقفه سلفاً.
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق